منتديات تونس 2050
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم
المواضيع الأخيرة
صحيفة الشرق الأوسط السبت مايو 22, 2021 6:39 amAdmin
صحيفة القدس العربي السبت مايو 22, 2021 6:37 amAdmin
صحيفة العرب اللندنية السبت مايو 22, 2021 6:35 amAdmin
صحيفة العربي الجديد السبت مايو 22, 2021 6:33 amAdmin
مجلة التسلية والترفيهالخميس مايو 06, 2021 11:34 amAdmin
سلسلة رمضان يجمعناالثلاثاء أبريل 27, 2021 10:19 pmAdmin
Salam | سلامالثلاثاء أبريل 27, 2021 10:10 pmAdmin
بحـث
نتائج البحث
بحث متقدم

اذهب الى الأسفل
Admin
Admin
المدير العام
المدير العام
المساهمات : 4143
نقاط : 5773
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 31/01/2021
العمر : 35
الموقع : تونس 2050
https://tn50.yoo7.com

السقوط من الطابق العاشر (بقلم/د. وليد قصاب) Empty السقوط من الطابق العاشر (بقلم/د. وليد قصاب)

الأربعاء مارس 03, 2021 4:32 am
تتحدّر الدمعة من عينيه كلما تذكر، ولا شيء يحبسها عند ذاك. تصير مثل شلال منهمر...
كانت تعرف همه وحزنه. وكانت قلقة عليه مثل أم رؤوم، تراه يزداد شحوبًا يومًا بعد يوم، تنطفئ النضارة في وجهه – وهو ما يزال شابًا – مثلما تنطفئ بقايا شمعة قديمة...


تحسّ به يحمل هموم الدنيا فوق كتفيه. قالت له أكثر من مرة:
- أنت تضني نفسك... سلّم الأمر إلى الله..


وكان يقول لها:
- نعم التوكل على الله... ولكن الدنيا جلاد لا يرحم..
طاحونة تحتاج دائمًا إلى المزيد ثم المزيد...


كانت أعباؤه تزداد يومًا بعد يوم. الأولاد يكبرون، وكلما كبر الولد كبر همّه، ومصاريف الحياة لا ترحم، والرجل – يا حسرة – يده قصيرة وعينه بصيرة... يذوي كأوراق الخريف، يتأكَّل من الحسرة والغمّ كما تتأكَّل نشارة الخشب...


قال لها يومًا:
- لم يعد من الغربة بد...
قالت له بحسرة وألم:
- الغربة سيف بتّار... يحزُّ الشَّمل، ويفرِّق الجمع...
- كلُّ الفقراء من أمثالي يضربون في الأرض الواسعة، ويسافرون في جنباتها بحثًا عن الرزق، والتماسًا لأفق أرحب، وعيش أرغد...
كانت كلماته مغموسة بالمرارة، تقطر تعاسة وأسى.


سكتت على مضض، وراح يبحث عن درب السّفر، حتى ((درب المرارة)) – كما كان يسميه – لم يكن سهلاً... ما ترك حيلة حتى يحصل على تأشيرة عمل... وسّطَ ودفع، وراح وجاء... أخيرًا قال لها وهو بين الحزن والفرح:
- حصلت على التأشيرة... سأسافر...


كاد قلبها ينخلع من بين جنبيها... ((ذهبت السَّكْرة وجاءت الفكرة)) سيسافر الرجل ويتركهم... مُكْرَهٌ لا بطل... إنه شديد التعلق بالأرض والدار والأهل.. كم كان ثائرًا على أولئك الذين يرتحلون ويتركون الوطن. كان يقول لها:
- الغريب كاليتيم اللطيم الذي ثكل أبويه.. الغريب كالغرس الذي زايل أرضه، فهو ذاوٍ لا يثمر.. الغريب مُنْبَتُّ الجذور، مقطوع الأصول، الغريب رقم من الأرقام.. وصفر على الشمال... و... و...


ذكّرته هذا، فقال مكابرًا:
- كان هذا من زمان... قبل أن يفرِّخ الحرمان ويعشعش في كل مكان... إن نظرات الأولاد تجلدني... إنهم دائمًا يجدون عند أولاد الجيران ما لا يعرفون.


وقالت والدمعة تفرّ من مآقيها:
- نُعَوِّدهم... نمدّ الرجل على قدر البساط... وأمثالنا كثيرون...
- ولمَ نُعَوِّدهم الحرمان من الآن؟


قالت متشبثة به:
- لأن الغربة أقسى حرمانًا... لا نستطيع أن نعيش من دونك...
خلّص نفسه من بين يديها حتى لا تنهار مقاومته، وقال:
- لن تطول الغيبة...


ألقت آخر سهم لعلها تثنيه:
- لقد تغيّرتَ وغيّرت مبادئك... أنسيتَ حديثك عن الغريب الذي يصبح بلا لون ولا شكل ولا رأي.. ألم تقل دائمًا إن الذين بسط الله لهم في الرزق أصبحوا ينظرون إلى من يأتي إليهم ليعلمهم ويساعدهم نظرتهم إلى المرتزقة والشحّاذين؟... ألم تقل... قطع كلامها مخفيًا وجهه بين يديه:
- لا تصدِّعي رأسي... كان هذا كلامًا مثاليًا قبل أن يصبح فوق كاهلي جبل من الأعباء والمسؤوليات... أنا بحاجة إلى التجلد يا امرأة... أرجوك..
يقلّب عينيه في الغرفة الحقيرة، يتفرّس – على ضوء مصباح خافت يأتي من الخارج – في وجوه النائمين... خمسة وهو سادسهم يغطون في نوم عميق، وقد علا شخيرهم بعد يوم من العناء الثقيل...


جمعتهم الغربة، لا يستطيع أي منهم أن يستأجر غرفة أو بيتًا وحده، فاحتمل بعضهم بعضًا على مضض... كانوا من مشارب شتى، ومهن مختلفة... معلم، وموظف، ولحام، وبنَّاء، وصبي مطعم، وخطَّاط...


لكل واحد شأنه وشجنه، طحنتهم الغربة. جاؤوا إلى هنا يحسبون جمع المال كقطف الثمر، فوجدوا طريقه أشق من رمال الصحراء وقت الهجيرة. والقوم الذين تركوهم يحسبونهم يجمعون المال من على قارعة الطريق... محسّدون ((مضروبون بحجر كبير)).


مضى عليه سنتان، مرتا كدهر، لم يوفق إلى عمل إلا بعد مرور سنة. أنفق ما قدم به، وبدا كأنه يبدأ من الصفر، وهو الآن معلم في مدرسة خاصة، لا يكاد راتبه يكفيه إلا لمثل هذه المعيشة الحقيرة...


جال ببصره في الغرفة، كأنها مهجع عسكر، ثلاثة على أسرَّة مهترئة، وثلاثة على فرش في الأرض. دلّلوه لأنه المعلم المثقف فيهم، فأعطوه أحسن سرير... ولكن أي معيشة هذه؟ عيشة الكلاب أحسن منها، يتعالى الشخير كأنه خوار البقر، معذورون... أضناهم التعب، وهدهم الذل والحرمان.


ما الذي أتى به؟ لماذا لم يبقَ على مبادئه التي ذكَّرته بها؟ عسرك في بلدك خير من يسرك في غربتك. يضحك في سرِّه ساخرًا... أين اليسر أصلاً؟! لم ير هنا إلا العسر والذل... انطبق عليه المثل: حَشْفًا وسوء كَيْلَة... غربة وذلة...


كان يحسب أنه سيرضى بالمر هربًا من الأمر، ولكنه هرب من تحت ((الدلف)) إلى تحت ((المزراب))...


فكر مرات أن يعود.. ولكن كرامته لم تسمح له. أيعود هكذا خاوي الوفاض؟ لابد أن يتحمل لعلها تفرج. وعده المدير – لما رأى حسن أدائه وغزارة علمه – أن يكلِّفه بساعات إضافية...


ألقى نظرة على النائمين.. شخيرهم كصفارات الإنذار.. فساؤهم وضراطهم وروائح الأرجل واختلاط الأنفاس تجعل الجو خانقًا يبعث على الإقياء... ولو غادر الغرفة إلى الخارج للفحته نار الجو الحارقة ورطوبته الخانقة..


لماذا ترك موطنه؟ كلما تذكر زوجته وأولاده تحدّرت دموعه كسحاب منهمر.. قالت له:
- القلة أهون عندنا من الفراق..
وبكت لتثنيه، ولم يشفع بكاؤها. كان يأسه من الوضع في وطنه عارمًا. ضاقت عليه الأرض هناك. حسب الأرض هنا ستكون أوسع.. فإذا أحلامه كالسراب.. صار كالبعير الناشز عن موضعه، إنه يتأكَّل يومًا بعد يوم كما يتأكَّل قلم الرصاص.


صحا في الصباح... لم يدر إن كانت سِنَةٌ من النوم قد عرفت طريقها إلى عينيه أم لا؟ ذهب إلى المدرسة يعلم أولادًا مترفين مرفّهين أتوا لقضاء الوقت والحصول على شهادة بلا دراسة... إن معاناته معهم وحدها مأساة، مطلوب أن ينجِّحهم جميعًا... التنجيح هنا بالمجان، ولو رسب طالب حمل المعلم وحده المسؤولية... بل قد يوضع في قفص الاتهام... مطلوب هنا أن تخون أمانتك حتى في العلم...


كان كلما شكا من كسل الأولاد وتقاعسهم وقلة تحصيلهم العلمي قال له زميل أقدم خبرة، وهو يرى فيه بعض الانضباط أو ((الشدة)) كما كان يسميها:
- احذر أن ترسِّب أحدًا... تفتح عليك بوابة المشكلات... وقد يُلْغَى عقدك...


كان إلغاء العقد أو التلويح به سيفًا مصلتًا على رؤوسهم باستمرار... لا تهمُّ هنا كفاءتك وعطاؤك العلمي بقدر ما يهم أن تنجِّح و((تُمَشّي)) و((تمسح الجوخ)).


عندما رجع إلى الغرفة بعد انتهاء الدوام وجد الرفاق المشاطرين له في السكنى واجمين حزانى، علم منهم والدموع تكاد تفرّ من مآقيهم جميعًا أن ((حسان)) عامل البناء الذي يسكن معهم قد سقط في أثناء عمله من الطابق الثالث في إحدى العمارات التي يشتغل فيها، وقد نقل إلى المستشفى، وهو راقد في العناية المشددة بين الحياة والموت.


طفرت الدموع إلى عينيه... اعترته مشاعر شتى لم يستطع تفسيرها... أحسَّ كأنه يهوي من مكان سحيق في فضاء من المجهول...


كان حسان شابًّا وسيمًا لم يجاوز العشرين... أتى من إحدى قرى سورية... كان أحد الفقراء المطحونين.. قبل أن يعمل هنا مع مقاول جشع يأكل جهده وعرقه مقابل مبلغ تافه يتقاضاه آخر كل شهر. لم يكن أمامه خيار آخر.. كان عملاً مضنيًا خطيرًا.


كان يحلم باستمرار أن يدخر بعض المال ليدفع ((بدل العسكرية)) ويتزوج ابنة خالته التي أحبها، ويبدأ عملاً متواضعًا... كان يحلم بشراء ((تاكسي)) والعمل عليها...


تحدرت من عينيه في تلك الليلة دموع كثيرة... أضناه التعب من الأرق والسهد... كان كلما غفلت عينه لحظات داهمه كابوس مريع... يرى نفسه يهوي من الطابق العاشر في إحدى العمارات وينقل إلى المستشفى ليرقد إلى جانب حسان بين الحياة والموت..


هب من نومه مذعورًا يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم... كان الفجر على وَشْك أن ينبلج، أخذ ورقة وقلمًا وراح يكتب وهو في حالة من الذهول والذعر:
((عزيزتي... ماذا أقول لك... لن أقول شيئًا... لن أبث الرعب في نفسك مثلما هو مبثوث بين جنبيّ... سأحدثك عن كل شيء عندما أعود..


سأعود... قررت أن أعود حيًّا... سامحيني أن أعود خاويَ الوفاض... ولكن ذلك خير من ألا أعود... سأنتظر ظهور صباح هذا اليوم وأنزل لأقطع تذكرة في حافلات النقل الجماعي....)).


((زوجك))
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى